سيكولوجية الجماهير ...الراعي والرعية

أكتوبر 16, 2016

سيكولوجية الجماهير
مفتاح شخصية الجماهير العربية 

لكى نفهم سلوك الجماهير ( ونحن هنا نتكلم عن العالم
العربى بشكل خاص ) فسنحاول أن نمسك بخيط يدلنا
على مفتاح شخصية هذه الجماهير والذى يفسر الكثير
من أفكارها ومشاعرها وسلوكياتها , وهذا المفتاح يمكننا
 بواسطته أن نقرأ الكثير من الظواهر المرتبطة بهذه
 الجماهير وأن نفهمها بشكل منطقى سلس .
ومفتاح شخصية الجماهير العربية ليس صعب المنال
حيث أنه وارد فى الكثير من أدبياتنا وتراثنا بشكل مكثف
 وملفت للنظر , فعلى مدى مراحل التاريخ يطلق لفظ " الرعية "
على الشعوب العربية , واللفظ مأخوذ من البيئة العربية
 ( الرعوية بشكل خاص ) حيث يكثر مشهد الراعى فى
 صورة رجل أو امرأة يمسك عصا ويهش بها على الغنم
 ليقودها إلى مواطن العشب ويحميها من الذئب ومن التفرق ,
 والأغنام هنا تضع رأسها لأسفل أغلب الوقت لتأكل العشب
أو تشرب الماء ( وهذا أغلب فعلها ) ولا ترفع رأسها إلا لتهزه
 للحظة قصيرة كعلامة على انتشاء الشبع . والأغنام تتحرك
 فى مجموعة يشكلها الراعى طولا أو قصرا أو عرضا وإذا شردت
 منهم واحدة يردها بإشارة أو ضربة من عصاه . ولا يتصور أن
 يكون لهذه الأغنام رؤية أو إرادة أو اختيار , وللراعى الحق
 كل الحق فى بيع بعضها وذبح البعض الآخر دون مساءلة من أحد .
 هذا هو مشهد عملية الرعى التى اشتقت منها الكلمة , وقد ينزعج
 القارئ من بشاعة هذه الصورة إذا تخيل نقلها إلى عالم البشر
 أو اتهام مجموعة من الناس بأنهم يتبعون هذا النمط , ونحن
لا نقصد ذلك ( وإن كان فى الواقع كثير مما يؤيده ) , ولكن نحاول
 أن نرى جذور السلوك من خلال تتبع معانى ودلالات التسمية والتى
 استقرت فى طبقات عميقة من الوعى العربى العام فشكلته .
قد يبدو هذا المفهوم سلبيا أو موجعا أو جارحا خاصة إذا نقله
أى شخص من المشهد الرعوى الحقيقى إلى المشهد الإنسانى
دون تحويرات لازمة تتصل بعالم البشر , ولكن من المؤكد أنه
حتى بعد هذه التحويرات يبقى للإسم تأثيراته العميقة والتى
نستطيع تتبعها فى صور العلاقة بين الحاكم والمحكوم فى كثير
 من مراحل التاريخ العربى , فقد كانت السلطة دائما فى يد الحاكم
 ( الراعى ) فهو الذى يرى ويوجه ويجمع أو يفرق ويعطى أو يمنع
 ويحمى أو يضيع , ولم يكن ثمة دور للرعية ( أو الرعايا ) إلا
 الإستجابة ( رد الفعل ) للراعى . وهذا المفهوم يدعمه مفهوم
أخلاقى آخر وهو فكرة المجتمع الأبوى الذى ترى فيه صورة الأب
 خفاقة عالية وترى فيها صورة الأبناء صغيرة تابعة ومتطفلة .
وهذا المفهوم الرعوى أو الأبوى يجعل الرعية دائما فى حالة تبعية
وأحيانا فى حالة تسول , فهم لا يعتقدون أن لهم حقوقا وإنما ما
 يحصلون عليه هو منحة من الراعى أو من الأب إن شاء أعطاهم
 إياها وإن شاء منعها عنهم , وهذا يفسر مانراه من ظاهر التزلف
 والإسترضاء والتسول والتوسل والدعاء بطول العمر للراعى
 أو للأب المانح القادر . وقد تعجب أنك فى كثير من المجتمعات
العربية حين تقدم لأحد خدمة معينة فى حدود وظيفتك أو عملك
 تجده يكثر لك من الدعاء وكأنك قدمت له شيئا لم يكن يستحقه ,
 فى حين أن هذا لا يحدث فى مجتمعات كثيرة تستشعر أن لها
حقوقا تأخذها بكرامة وهى رافعة الرأس شاكرة بموضوعية وأدب ,
 وفرق كبير بين شكر الأحرار ودعوات المتسولين , فما نجده فى
بلاد العرب هو أشبه بدعوات المتسولين لمن قدموا لهم عطاءا ,
 تلك الدعوات التى تظهر فقط أمام صاحب العطاء لتستبدل بعد
 غيابه عن أعينهم بأشياء أخرى كثيرا ما تكون مناقضة .
وهذه المفاهيم تختلف كثيرا عن مفاهيم المواطنة التى تستوجب
 حقوقا وواجبات وتستوجب تفاعلا ناضجا وحيويا بين الحاكم
 والمحكوم وبين الأب الحكيم وابنه الناضج المسئول .
إذن فنحن طبقا لهذا المفتاح أمام سلوك رعايا تابعين لا مواطنين
 فاعلين إيجابيين , وهؤلاء الرعايا ليست لهم حقوق معروفة واجبة
 الأداء يأخذونها بعزة وكرامة وإنما لهم عطايا ومنح تأتى إليهم من
 الراعى وتستوجب ما تستوجبه العطايا والمنح من الإنحناء وكثرة
 الدعاء والثناء والمدح وطلب الرضا والتمنيات بطول العمر للراعى وذريته .
مجلة البيت اللبناني

دكتور/ محمد المهدى
استشارى الطب النفسى

مواضيع ذات صلة

Previous
Next Post »